كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أهل المعاني: هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون: لا آتيك ما دامت السموات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبدًا. وقيل: إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانًا، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر} (التوبة). وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها، وعطاء نصب على المصدر المؤكد، أي: أعطوا عطاء، أو الحال من الجنة، ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه فقال: {فلا تك} يا محمد: {في مرية}، أي: شك: {مما يعبد هؤلاء} المشركون من الأصنام أننا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم، وهذه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم: {ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم}، أي: كعبادتهم: {من قبل} وقد عذبناهم: {وإنا لموفوهم} مثلهم: {نصيبهم}، أي: حظهم من العذاب: {غير منقوص}، أي: كاملًا غير ناقص. ولما ذكر تعالى في هذه الآية إعراضهم عن الاتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب سلاه بأخيه موسى عليه السلام بقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب}، أي: التوراة الجامعة للخير: {فاختلف فيه}، أي: الكتاب، فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن: {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة: {لقضي}، أي: لوقع القضاء: {بينهم}، أي: بين من اختلف في كتاب موسى في الدنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به المحق، ولكن سبقت الكلمة أنّ القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} (يونس) الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكدًا: {وإنهم لفي شك}، أي: عظيم محيط بهم: {منه}، أي: من الكتاب والقضاء: {مريب}، أي: موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل: الضمير في وإنهم راجع لكفار مكة وفي منه للقرآن: {وإن كلا}، أي: كل الخلائق، وقوله تعالى: {لما} ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله: {ليوفينهم ربك أعمالهم} فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة، ويجازى المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف.
فائدة: قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات: أوّلها: كلمة إن وهي للتأكيد، وثانيها: لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها: اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضًا. ورابعها: حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولًا. وخامسها: المضمر. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها: النون المذكورة في قوله تعالى: {ليوّفينّهم} فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله تعالى: {إنه بما يعملون خبير} وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين. ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاستقم}، أي: على دين ربك والعمل والدعاء إليه: {كما أمرت} والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك، أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك، وتوطيئة لقوله تعالى: {ومن تاب معك}، أي: وليستقم أيضًا على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله: «شيبتني هود وأخواتها»، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية، وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يروى عنك أنك قلت: «شيبتني هود» فقال: نعم. فقلت: بأيّ آية قال: قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحد غيرك؟ قال: «قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم». قال الإمام الرازي: إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى. ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى: {ولا تطغوا}، أي: لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطًا، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»، فقوله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله وسدّدوا، أي: اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب وقاربوا، أي: اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير، والغدوة الرواح بكرة، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه: اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضًا. وقوله: «واستعينوا بشيء من الدلجة». إشارة إلى تقليله، ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحًا أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحًا من باب أولى، ثم علل ذلك مؤكدًا تنزيلًا لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال: {إنه بما تعملون بصير}، أي: عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها.
{ولا تركنوا}، أي: تميلوا: {إلى الذين ظلموا} أدنى ميل: {فتمسكم النار}، أي: تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: {ولا تركنوا} فإنّ الركون هو الميل اليسير. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، أصبحت شيخًا كبيرًا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه وتعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران). واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدونك ممن لم يؤد حقًا ولم يترك باطلًا، حين أدناك اتخذوك قطبًا تدور عليك رحى باطلهم وجسرًا يعبرون عليك إلى ملاذهم وسلّمًا يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما أعمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا} (مريم). فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداوِ دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام. وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملًا، أي: من الظلمة. وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. قال صلى الله عليه وسلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه». ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال: لا فقيل له: يموت، فقال: دعه يموت. وقوله تعالى: {وما لكم من دون الله من أولياء}، أي: أعوانًا وأنصارًا يمنعوكم من عذابه حال من قوله: {فتمسكم النار}، أي: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة: {ثم لا تنصرون}، أي: لا تجدون من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله في القيامة. ففي هذه الآية وعيد لمن ركن إلى الظلمة بأن تمسه النار فكيف يكون حال الظالم في نفسه. ولما أمر تعالى بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى: {وأقم الصلاة} وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى هو الصلاة وقوله تعالى: {طرفي النهار} الغداة والعشي، أي: الصبح والظهر والعصر. وقوله تعالى: {وزلفًا} جمع زلفةً، أي: طائفة: {من الليل}، أي: المغرب والعشاء: {إنّ الحسنات} كالصلوات الخمس: {يذهبن}، أي: يكفرن: {السيئات}، أي: الذنوب الصغائر، لما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر»، وزاد في رواية أخرى: «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر»، وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أنّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يارسول الله، لا يبقى من درنه شيء.
فقال: ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا»
. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات». وعن الحسن أنّ الحسنات قول العبد: سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعث فقالت: بعني بدرهم تمرًا. قال: فأعجبتني فقلت: إنّ في البيت تمرًا هو أطيب من هذا فالحقيني، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدًا، فأتيت عمرًا فذكرت له ذلك فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدًا، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «أخنت رجلًا غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلًا حتى أوحي إليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل} إلى قوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين}، أي: عظة للمتقين. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامّة؟ قال: «بل للناس عامّة». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل: يا رسول الله، ألهذا خاصة؟ فقال: «بل للناس كافة». وعن معاذ بن جبل قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئًا إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي، فقال معاذ بن جبل: فقلت: يا رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة؟ قال: «بل للمؤمنين عامّة». قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الأوّل: الإقلاع عن الذنب بالكلية، الثاني: الندم على فعله، الثالث: العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى: {ذلك ذكرى} إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} إلى ههنا. وقيل: هو إشارة إلى القرآن. وقوله تعالى: {واصبر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهافإن الله لا يضيع أجر المحسنين}، أي: أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلًا على أنّ الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص. ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران، السبب الأوّل: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى: {فلولا}، أي: فهلا: {كان من القرون}، أي: من الأمم الماضية: {من قبلكم أولو بقية}، أي: أصحاب رأي وخير وفضل: {ينهون عن الفساد في الأرض} وسمي الفضل والجود بقية؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلًا في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة:
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم

ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه.
فائدة: حكي عن الخليل أنه قال: كل ما في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب الكشاف: وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات: {لولا أن تداركه نعمة من ربه} (القلم)، {ولولا رجال مؤمنون} (الفتح)، {ولولا أن ثبتناك} (الإسراء). انتهى. وقوله تعالى: {إلا قليلًا ممن أنجينا منهم} استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلًا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. السبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله تعالى: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه}، أي: ما نعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك: {وكانوا مجرمين}، أي: كافرين.
تنبيه: قوله تعالى: {واتبع الذين ظلموا} إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفًا على مضمر؛ لأنّ المعنى إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، وأتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه واتبعوا جزاء الاتراف فالواو للحال فكأنه قيل: أنجينا القليل وقد أتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقوله تعالى: {وكانوا مجرمين} عطف على أترفوا، أي: اتبعوا الاتراف، وكونهم مجرمين؛ لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام أو على اتبعوا، أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ثم بيّن تعالى أنه ما أهلك أهل القرى بظلم بقوله تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم}، أي: بشرك: {وأهلها مصلحون} فيما بينهم، والمعنى: أنه لا يهلك أهل القرى بمجردّ كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، والحال أنّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين الشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم، ولهذا قيل: إنّ حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، وإنما نزل على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة}، أي: أهل ملة واحدة وهي الإسلام كقوله تعالى: {إنّ هذه أمتكم أمة واحدة} وفي هذه الآية دليل على أنّ الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، ولهذا قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة: {ولا يزالون مختلفين}، أي: على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم، فكل أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضًا اختلافًا كثيرًا لا ينضبط.عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة» وفي رواية «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة». والمراد بهذه الفرق: أهل البدع والأهواء كالقدرية والمعتزلة والرافضة. والمراد بالواحدة: هي ملة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. فإن قيل: ما الدليل على أنّ الاختلاف في الأديان فلم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال؟
أجيب:
بأنّ الدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة} (هود). فيجب حمل الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمّة واحدة وما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: {إلا من رحم ربك}، أي: أراد لهم الخير فلا يختلفون فيه، فيجب حمل الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه ذلك، وفي هذه الآية دلالة على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى؛ لأنّ تلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر، فإنّ كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرحمة هو أنه سبحانه وتعالى خلق فيهم تلك الهداية والمعرفة: {ولذلك خلقهم}، أي: خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وخلق أهل الرحمة للرحمة. روي عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا، والحاصل: أنّ الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين، فحكم على بعضهم بالاختلاف وهم أهل الباطل ومصيرهم إلى النار، وحكم على بعضهم بالاتفاق وهم أهل الحق ومصيرهم إلى الجنة، ويدل لذلك قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك} وهي: {لأملأنّ جهنم من الجنة}، أي: الجنّ: {والناس أجمعين} وهذا صريح بأنّ الله تعالى خلق أقوامًا للجنة والرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة، وخلق أقوامًا للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية، ولما ذكر تعالى القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر نوعين من الفائدة أوّلهما تثبيت الفؤاد بقوله تعالى: {وكلًا}، أي: وكل نبأ: {نقص عليك} وقوله تعالى: {من أنباء الرسل}، أي: نخبرك به بيان لكل. وقوله تعالى: {ما نثبت به فؤادك} بدل من كلًا، ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك لأنّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركًا خف ذلك على قلبه كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، وإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص وعلم أنّ حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه. الفائدة الثانية: قوله تعالى: {وجاءك في هذه الحق}، أي: في السورة وعليه الأكثر، أو في هذه الأنباء المقتصة فيها. وقال الحسن: في هذه الدنيا. قال الرازي: وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع؛ لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير لها. فإن قيل: قد جاءه الحق في غير هذه السورة بل القرآن كله حق وصدق؟
أجيب: بأنه إنما خصها بالذكر تشريفًا لها: {وموعظة وذكرى للمؤمنين} وخصهم بالذكر لانتفاعهم بذلك بخلاف الكفار، فذكر تعالى أمورًا ثلاثة: الحق والموعظة والذكرى، أمّا الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد، وأمّا الموعظة فهي إشارة إلى السفر عن الدنيا وتقبيح أحوالها، وأمّا الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال النافذة الصالحة في الدار الآخرة، ولما بلغ تعالى الغاية والإنذار والإعذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم}، أي: حالتكم، وفيه وعيد وتهديد، وإن كانت صيغته صيغة الأمر فهو كقوله تعالى لإبليس: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك} (الإسراء). وقرأ شعبة بعد النون بألف على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد: {إنا عاملون}، أي: على حالتنا التي أمرنا بها ربنا: {وانتظروا}، أي: ما يعدكم الشيطان به من الخذلان: {إنا منتظرون}، أي: ما يحل بكم من نقم الله تعالى وعذابه نحو ما نزل على أمثالكم، وقيل: إنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان، ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدّسة فقال: {ولله غيب السموات والأرض}، أي: علم ما غاب فيهما فعلمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع مخلوقاته خفيها وجليها: {وإليه} أي لا إلى غيره: {يرجع الأمر كله}، أي: إليه يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم. ولما كان أوّل درجات السير إلى الله تعالى عبوديته وآخرها التوكل عليه قال تعالى: {فاعبده} ولا تشتغل بعبادة غيره: {وتوكل عليه}، أي: ثق به في جميع أمورك فإنه كافيك: {وما ربك بغافل عما تعملون} فيحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه شيء منها فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
فائدة: قال كعب الأحبار خاتمة التوراة خاتمة سورة هود. وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء». حديث موضوع. اهـ.